إجتهاد دستوري أم ضرورة سياسة
عادت قضية تعديل الدستور هذه الأيام إلى الواجهة، ولو عن طريق التسريبات التي لم تنفها السلطة ولم تؤكدها. غير أن هذه العودة تزامنت وانفجار قضايا أخرى شغلت كثيرا بال الرأي العام، بسبب حساسيتها، مثل شرعنة بيع الخمور، وتعديل قانون العقوبات وارتدادات هزة الغاز الصخري، فهل لهذا علاقة بذلك؟ وما حقيقة جدية السلطة في طي ملف الدستور الذي عمّر لنحو أربع سنوات؟ وما هي المحاور التي أغفلتها التسريبات؟ هذه الأسئلة وأخرى سيجيب عنها"الملف السياسي" لهذا الخميس.
النائب لخضر بن خلاف يقرأ بروز واختفاء ورشة الدستور
"مشكلة الجزائر في اللصوص وليس في النصوص"
تحوّلت قضية تعديل الدستور إلى أداة بيد السلطة، تدفع بها إلى الواجهة كلما شعرت بأن الانسداد بات يخنق المشهد السياسي.. وهكذا ظل هذا الملف يبرز أحيانا ويختفي أحيانا أخرى، حسب حدة الاحتقان وتأثيره على تنامي قوة المعارضة.
وبات قسط كبير من المتابعين للشأن السياسي في البلاد وحتى في الخارج، مقتنعين بأن السلطة استغلت ورقة تعديل الدستور"أبشع استغلال"، في إدارة صراعها مع المعارضة وعموم الرافضين لسياساتها، ونجحت في كسب أربع سنوات من عمر هذا الصراع، إذا تأكد أن الدستور سيفرج عنه خلال هذا الشهر، وفق ما يشاع ويروّج.
وإن تحجّجت السلطة، كما جاء في خطابات الرئيس بوتفليقة المتكررة، بأن التأخر في طرح وثيقة التعديل الدستوري، يندرج في سياق حرصها على الوصول إلى"دستور توافقي"، وفق ما طالبت به المعارضة، إلا أن هذا المبرر لم يلق التجاوب المطلوب، طالما أن مقترحات الأحزاب والشخصيات سلمت لهيئة الحوار الأولى برئاسة عبد القادر بن صالح في جوان 2011.
غير أن قسطا آخر من المتابعين لا ينظر إلى القضية من هذا المنطلق، ومن بين هؤلاء النائب عن جبهة العدالة والتنمية، لخضر بن خلاف، الذي يعتقد أن "المشكل في الجزائر ليس مسألة نصوص بقدر ما هي مسألة لصوص".
وكان يشير النائب هنا إلى عدم تفعيل القوانين والنصوص السارية المفعول، وفي مقدمتها القوانين التي عدلت أخيرا في إطار ما عرف بـ"حزمة الإصلاحات"، ممثلة في قانون الأحزاب وقانون الانتخابات وقانوني البلدية والولاية، وقانون الإعلام، والقانون المتعلق بترقية المشاركة السياسية للمرأة، وهي النصوص، التي أفرغت من محتواها، كما قال بن خلاف، على مستوى البرلمان.
وبرأي المتحدث، فإن نية السلطة كانت سيئة منذ البداية، بقرارها التعجيل بتعديل بعض القوانين على مراجعة الدستور، الأمر الذي ساهم في التعجيل ببروز الكثير من التناقضات، مستدلا في هذا الصدد بالنظام الداخلي للمجلس الشعبي الوطني، الذي وضعه التجمع الوطني الديمقراطي في 1997، والذي أصبح لا يواكب التعديلات التي أدخلت على الدستور، يقول بن خلاف، بحيث يتحدث هذا القانون عن رئيس الحكومة، في حين أن الدستور الحالي يتحدث عن الوزير الأول، برغم ما في ذلك من اختلاف كبير من حيث الصلاحيات.
وبرأي بن خلاف، فإن"السلطة عادة ما تعمد إلى شغل الجزائريين وإلهائهم من خلال وعودها بمراجعة بعض النصوص والتشريعات، غير أن ذلك لم يكن سوى مناورة منها لتمرير بعض المشاريع"، واستغرب هنا القيادي في جبهة العدالة والتنمية،"بروز قضية تعديل الدستور إلى الواجهة، في الوقت الذي شرعن فيه وزير التجارة، عمارة بن يونس، بيع الخمور في كل مكان مثل الحليب، وعدل قانون العقوبات المثير للجدل..".
عضو المجلس الدستوري السابق عامر رخيلة
المشرّع مطالب بالتنصيص على حماية قدسية الدستور
قدر الأستاذ في القانون الدستوري عمار رخيلة، بأن الحديث عن وجود إرادة لتعديل الدستور، لا بد أن يصحبه تعديل عميق يمس توازنات السلطة بتحديد طبيعة النظام السياسي للخروج من"هذا النظام الهجين"، كون النظام الحالي لا هو بالنظام الرئاسي ولا هو بالنظام البرلماني وبشبه الرئاسي أو البرلماني، مع تكريس مبدأ السلطة تحد السلطة، وشدد على أهمية أن يعاد للدستور هيبته بتضمينه مواد وآليات تمنع التعرض له إلا في حالات الضرورة القصوى.
واعتبر الخبير أن الأمر يستوجب الفصل بين السلطات وتعميق الحريات والحقوق الأساسية للمواطن، من خلال إزالة كل عائق يمكن أن يحول دون ممارسته وبحرية لحقوقه السياسية والمدنية، وذلك لن يتأتى حسب الأستاذ إلا بوثيقة تعرض للاستفتاء الشعبي، تستجيب للإرادة الشعبية من خلال مؤسسات تحترم القانون، واعتبر أن عرض المسودة المتعلقة بالتعديل الدستوري على البرلمان دون العودة إلى رأي الشعب، يعني أنه لن يستجيب للإرادة الشعبية وللمجتمع وكذا الوضعية المرتقبة للأجيال المقبلة، ما يجعله منقوص الشرعية.
وأبرز المتحدث أنه وللوصول إلى دستور قار بعيد عن التعديلات"المزاجية" التي تتم في كل فترة وعقلية"دستور لكل رئيس"، يجب أن يكون هناك "دستور للشعب"، هذا الأخير لا يعدل إلا في الضرورة القصوى مع إدراج آليات ضمنه تمنع المساس به، وأشار إلى أن الدستور الحالي أصبح بدون قيمة بل وأضحى قانونا عاديا"ما يتطلب إعادة هيبة وقيمة هذه الوثيقة الأساسية في حياة الدول"، وشبه رخيلة الدستور بجسد الإنسان الذي وبتعرضه لعدة عمليات جراحية يصبح فاقدا للمناعة، وهو الشأن ذاته بالنسبة للدستور الذي يفقد قدسيته بكثرة التعديلات.
وإن كان الأمر يتعلق بالمسودة التي تكفل رئيس الحكومة الأسبق أحمد أويحيى بالتشاور بشأنها، فإنها في نظره ليست مسودة للدستور وليست وثيقة دستورية، كما قال، لأنها تجمع بين القانون العضوي وأحكام دستورية، كما أنها غير معترف بها لأنها أعادت إنتاج ما تضمنه دستور الجمهورية الفرنسية الثالثة عام 1876 الذي تضمن قوانين عضوية، إضافة إلى أحكام دستورية "وهذا ليس هو الدستور الذي نطلبه اليوم"، وفسر في الأمر بالقول بأن الحديث عن الأحزاب السياسية والنواب لا شأن له بالدستور فهناك قوانين داخلية وأخرى أساسية ناظمة تحدد هذه الأمور ولا دخل للدستور بها، ودعا في هذا الخصوص إلى ضرورة الفصل بين السلطات وتجسيد"مبدأ السلطة تحد السلطة"، حتى يمكن الحديث عن دستور مقدس تحترم السلطة التشريعية فيه السلطة التنفيذية والتنفيذية القضائية، ولا يكون رئيس الهيئة التنفيذية ممثلا في رئيس الجمهورية رئيسا للمجلس الأعلى للقضاء ولا يكون وزير العدل الذي هو أحد أعضاء الهيئة التنفيذية عضوا في هذا المجلس أيضا.
أربع سنوات لم تكف لطي الملف
السلطة لعبت ورقة تعديل الدستور لربح الوقت
في منتصف أفريل 2011، اغتنم الرئيس بوتفليقة فرصة الذكرى الثانية لإعادة انتخابه لعهدة ثالثة وألقى خطاباً وعد فيه الشعب والطبقة السّياسية بـ"إصلاحات سياسية عميقة"، تنصبّ على تعديل الدستور وقانوني الأحزاب والانتخابات، وكان واضحاً للمتتبعين أن السلطة كانت تعيش حالة "صدمة وذهول" بفعل اشتعال "الربيع العربي" وسقوط بن علي ومبارك، وامتداد اللهيب إلى اليمن والبحرين وسوريا وليبيا في ظرف أيام معدودات، ما جعل السلطة تسارع إلى الإعلان عن "الإصلاحات السياسية" وتعديل الدستور للحؤول دون وصول "الربيع العربي" إليها.
بعد خطاب الرئيس، لم تنتظر السلطة طويلاً لتسند إلى بن صالح مهمة قيادة سلسلة من المشاورات الماراطونية مع الأحزاب والجمعيات والشخصيات الوطنية وفعاليات المجتمع المدني، لإعطاء الانطباع بأنها "جدّية" في تعديل الدستور ومختلف القوانين المرتبطة بإصلاح الحياة السياسية بالبلد، والتقى بن صالح نحو 250 طرفاً في رئاسة الجمهورية، وتلقى منهم اقتراحاتهم بخصوص تعديل الدستور.
وبعد انتهاء المشاورات الماراطونية، بدأت السلطة تتلكأ في مسألة تعديل الدستور، واكتفت بتعديل بعض القوانين ومنها قانون الانتخابات الذي منح "كوطة" معتبرة للنساء في المجالس المحلية والبرلمان، ونظمت انتخابات تشريعية ثم محلية في 2012، وفازت فيها جبهة التحرير بأغلبية ساحقة. وخلال ذلك، كانت عاصفة "الربيع العربي" قد بدأت تهدأ أو تتحوّل إلى فتن وحروب أهلية، ما جعل السلطة تتذرع بمآلاتها لتخويف الجزائريين من أوضاع مشابهة إذا فكروا في "ربيع جزائري"، وفترت همّتها نحو الدستور ردحاً من الزمن.
وبعد مرض الرئيس وخضوعه لعلاج مطوّل بباريس، برزت الحاجة مجدداً لدى أصحاب القرار، إلى تعديل الدستور قصد إدراج منصب نائب للرئيس لمعالجة وضعياتٍ معقدة قد تنجم عن عجز الرئيس عن مواصلة مهامه، فبعثت السلطة فكرة تعديل الدستور مرة أخرى في عام 2014، وقررت تنظيم "استشارات واسعة" جديدة مع الطبقة السياسية وفعاليات المجتمع المدني، وأسندت مهمة قيادتها هذه المرة إلى أحمد أويحيى.
وكان الجميع يتوقع تعديلا دستوريا عميقا يلبي مطامح الطبقة السياسية، لاسيما وأن السلطة قد تبنت فكرة المعارضة المتعلقة بـ"الدستور التوافقي"، وكانت التوقعات تذهب إلى أن الاستفتاء على تعديل الدستور سيُنظم بعد أشهر من الانتخابات الرئاسية، ولكن الاستفتاء لم يُنظم لأسباب مجهولة، وبدا وكأن مشروع التعديل قد وُضع في الثلاجة مجدداً.
لكن السلطة اختارت الذكرى الأولى لإعادة انتخاب الرئيس لعهدة رابعة لتعلن عن تعديل دستوري محدود سيمرّ على البرلمان بغرفتيه، بحسب ما يشاع، عوض عرضه للاستفتاء الشعبي. وهنا بدأت الطبقة السياسية تطرح علامات استفهام كثيرة، ومنها: لماذا تعديل محدود عوض تعديل عميق وشامل؟ وما مصير اقتراحاتها في 2011 و2014؟ ولماذا نظمت السلطة تلك المشاورات الماراطونية إذا كانت ستذهب إلى تعديل محدود تمرّر فيه قناعاتها وتوجهاتها دون إيلاء أي أهمية للشركاء السياسيين والاجتماعيين؟ هل كان كل ما يهمّ السلطة هو ربح الوقت والحؤول دون وصول "الربيع العربي" إلى قلاعها؟ وإلى متى تبقى السلطة تضع دساتير أو تعدّلها على مقاسها ووفق الظروف والمتغيرات؟
كرونولوجيا تعديل الدستور
هدوء.. بعد عاصفة "الربيع العربي"
في خضم أحداث "الربيع العربي"، التي زحفت على بلدان مجاورة للجزائر خلال سنة 2011، أعلن الرئيس بوتفليقة في خطاب تاريخي إلى الأمة في 15 أفريل من نفس السنة، عن دخول البلاد مرحلة مفصلية ومصيرية لتغيير هادئ يعزز الديمقراطية ويقضي على البيوقراطية، من خلال تطبيق برنامج إصلاحات سياسية عميقة، حيث تم الإعلان قبلها عن بداية هذه الإجراءات في مجلس الوزراء يوم 3 فيفري بإقرار رفع حالة الطوارئ.
وفي منتصف شهر ماي 2011، كلّف رئيس الجمهورية، كلا من رئيس مجلس الأمة، عبد القادر بن صالح، ومستشاريه الجنرال المتقاعد محمد تواتي ومحمد علي بوغازي، للإشراف على تنظيم المشاورات حول الإصلاحات السياسية قصد تعميق المسار الديمقراطي وتعزيز دولة الحق والقانون، وبدأت هذه المشاورات يوم 21 من نفس الشهر.
وقد كلف بن صالح بإدارة هذه المشاورات واستقاء آراء الأحزاب السياسية والشخصيات الوطنية وممثلين عن المجتمع المدني والأخذ بمقترحات هؤلاء حول مشروع الإصلاحات السياسية، وعلى الخصوص مراجعة الدستور والنصوص التشريعية المتعلقة بالنظام الانتخابي والأحزاب السياسية وتعزيز دور المرأة في المجالس المنتخبة والحركة الجمعوية.
وبعد مرور سنتين على إعلان الرئيس بوتفليقة وتعهده بمراجعة الدستور الحالي حسب تطلعات الجزائريين في بناء دولة مؤسسات تواكب التحولات الجارية، قرر بوتفليقة شهر أفريل من سنة 2013، تشكيل لجنة خبراء تكون مهمتها وضع مشروع تمهيدي للقانون المتضمن تعديل الدستور، وقد أسندت رئاسة اللجنة إلى الخبير في القانون الدستوري، عزوز كردون.
وفي شهر أوت من نفس السنة، رفعت اللجنة المكلفة بإعداد مشروع مسودة التعديل الدستوري، تقريرها إلى الوزير الأول، عبد المالك سلال، الذي رفعه بدوره إلى رئيس الجمهورية، ليعلن بعدها في اجتماع لمجلس الوزراء بتاريخ 7 ماي 2014، إجراء مشاورات جديدة أملا في الوصول إلى دستور توافقي، ليشرع بعدها وزير الدولة مدير ديوان رئاسة الجمهورية، أحمد أويحيى، بين الفاتح جوان والثامن جويلية من نفس السنة.
وقد أجرى أويحيى 114 لقاء مع شخصيات وطنية وأحزاب سياسية وجمعيات ومنظمات وطنية، وكفاءات جامعية، وتلقى ديوان رئاسة الجمهورية 30 إسهاما كتابيا ورد من مسؤولين سابقين وجامعيين وجمعيات مختلفة.. فيما حدد ديوان رئاسة الجمهورية نهاية شهر أوت آخر مهلة لتقديم التقرير النهائي حول مشاورات تعديل الدستور.
ومنذ ذلك الوقت، اقتصر الحديث عن ورشة تعديل الدستور على الأوساط الإعلامية والسياسية، بل إنه تحول إلى نكتة للتندر، فيما بدا أن الرئيس استشعر الحرج بسبب طول عمر هذه الورشة، فخرج في رسالة شهر نوفمبر المنصرم، وجهها إلى منتدى حول "التطورات في مجال القانون الدستوري في إفريقيا"، حاول من خلالها تبرير التأخر برغبته في الوصول إلى دستور توافقي، يبدو أنه بات أبعد عن التحقيق من أي وقت مضى.
منقولة من الشروق السياسي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق