القوانين الأخيرة الصارمة جدا، والعتاد المتطوّر، الذي وفّرته مصالح الدرك الوطني بقيادة اللواء بوسطيلة، من كاميرات حرارية تراقب الحدود وطائرات عمودية، بقدر ما أبرقت اقتراب نهاية كارثة التهريب، خاصة عبر الحدود الشرقية التي هرّبت حقول نفط كاملة نحو تونس، بقدر ما تثير الشك والمخاوف في إمكانية تطبيقها بنفس الصرامة، وعلى شكل دائم، بعد قرابة سبع سنوات، من تمكّن أباطرة التهريب من السيطرة بالكامل على الحدود الشرقية، خاصة في الفترة الفاصلة، ما بين 2010 و2014، حيث نمت دولة كاملة بشعبها من التهريب وبتهريب الوقود.
وإذا كانت الإحصاءات الرسمية، قد عدّت خسارة الجزائر قرابة 1 . 5 مليار دولار سنويا، من تهريب 1 . 5 مليار لتر من البنزين والمازوت، تصبّ جميعها في حسابات بارونات الممنوع والحرام، تحدّت الشعب والدولة والثروة الأهم في البلاد، وقوت الجزائريين، فإن مصادر رسمية ضاعفت هذا الرقم، ويأمل الجزائريون في التسريع في تطبيق مشروع قانون التهريب الجديد، الذي انفردت الشروق اليومي في الكشف عنه، خلال هذا الأسبوع، والذي قد يجرّ المهربين إلى السجن والزجّ بهم خلف القضبان، لمدة عشر سنوات، وغرامات مالية لا تقل عن 100 مليون سنتيم، وسيصادق عليه بالإجماع بكل تأكيد أعضاء المجلس الشعبي الوطني.
وسيكون الحبس لمدة سنتين، إلى عشر سنوات، والغرامة التي اقترح بأن تكون بقيمة عشر مرات مجموع قيمتي البضاعة والسيارة أو الشاحنة المستعملة في التهريب، جزاء صارما، لأي مهرّب يتم توقيفه، وواضح من القانون الجديد الذي من المفروض أن يقبر التهريب بصفة نهائية، أنه التفت إلى جذور ووسائل التهريب، ومنها وسيلة النقل، إذ سيتعرض كل من يلجأ إلى تهيئة سيارته أو شاحنته بزيادة سعة تخزينها للوقود للعقاب، ومعلوم بأن غالبية وسائل النقل في الحدود الشرقية والغربية، تم توسيع سعة مخزونه، بل صار في كل بلدية وحيّ عمال مختصون في القيام بهاته المهمة، وتوجد الآن قرابة عشرة إجراءات جديدة كتمت أنفاس المهربين، مدعمة بالطائرات التي باشرت عملها، وتمكنت خلال الأسبوع الماضي على الحدود الشرقية بولاية تبسة من حجز 50 ألف لتر من الوقود، خاصة أن الطائرات بإمكانها مراقبة 25 كيلومترا، ومتابعة المهرب إلى أن يتم ضبطه، كما أن الـ 20 برجا للمراقبة الموجودة حاليا في ولاية تبسة، مكّن بالكاميرات الحرارية من ضبط كل حركة في أي مكان كان، ليلا أو نهارا.
أشهر المهربين صاروا أكبر المستثمرين؟
بعد سنوات التهريب السوداء على الجزائر والوردية على بارونات الممنوع، الذين نقلوا حقول النفط إلى الخارج، بدأ البارونات الذين جنوا مئات الملايير في تبييض أموالهم، وغسلها من رائحة النفط، فباشروا عمليات استثمار يعلمها كل أهل ولاية تبسة، وهم يسيطرون حاليا على أموال الولاية، في الصناعة والزراعة والخدمات المختلفة، وحتى عبر استثمارات خارج الوطن، وأهل تبسة يعرفون أحد مشاهير التهريب، الذي امتلك أكثر من 200 شاحنة عملاقة من نوع داف الصينية، ذات الخزان العملاق، الذي يحمل آبارا من الوقود، وسعر كل شاحنة قرابة ملياري سنتيم، استعملها جميعا، ومن دون توقف لمدة أربع سنوات في تهريب حقول من النفط كونت لديه ثروة هائلة، حوّلها الآن أو بيّضها إلى استثمارات في جميع المجالات.
بينما قرابة مئة ألف نسمة في ولاية تبسة الذين عاشوا في السنوات الأخيرة من التهريب، ضمن الدولة والشعب الموازي الذي تكوّن في الحدود الشرقية، باشروا البحث عن مصادر رزق أخرى، والتغيير بالكامل لأسلوب حياتهم، كون الكثير منهم، ظلوا يقودون سيارات غير مدوّنة إداريا، ومن دون ترقيم، ويعيشون من دون هوية، حيث كان كبار المهربين يتعاملون مع أطفال غير مسجلين في مصالح الحالة المدنية، وآخرون غيّروا أسماءهم وزمان ومكان ولادتهم، ولكنهم يعيشون الثراء الفاحش دون الحاجة للهوية التي يمكن بعد عمليات التبييض الأخيرة شراؤها، وهو ما جعل التعامل معهم معقدا جدا، أمنيا وقضايا، لأنهم غير موجودين مدنيا، رغم أن بعضهم من أصحاب مؤسسات كبرى مبنية على تهريب المحروقات، وقد حاول المهربون سواء في الجهة الجزائرية أو حتى التونسية، استغلال العمليات الإرهابية بجبال الشعانبة في الحدود التونسية الجزائرية، لأجل تطوير عمليات التهريب .
ولكن القوانين الجديدة، خاصة بعد انهيار أسعار النفط بخرت أحلامهم مؤقتا، وربما بصفة نهائية، وفي ولاية تبسة التي لم يكن يزيد عدد سكانها عن 80 ألف نسمة، منذ عشر سنوات، وقارب الآن المليون نسمة، حيث نزح إليها عشرات الآلاف من كل مناطق الوطن، وكأنها إمارة خليجية تسبح في النفط، لن تبذل جهدا كبيرا لمعرفة خارطة التهريب في ولاية تبسة، حيث إن منطقتي بكارية والحويجبات مختصتين في تهريب الوقود، ومنطقة بئر العاتر ينشط مهربوها في تهريب الذخيرة والمعدن الأصفر، ومنطقة الصفصاف في تحويل الأغنام الجزائرية إلى تونس، ومناطق الكويف والمريج وعين الزرقاء في تهريب مختلف ماركات السيارات وقطع الغيار، وتأكد منذ دخول النصف الثاني من شهر مارس 2015، بأن محطات الوقود التي بلغ عددها 54 محطة وقود من بينها 10 تابعة للدولة، مهددة في حالة تأكيد تخزينها للنفط والمتاجرة به في السوق السوداء بالغلق، وهي الوحيدة التي بقي أمامها فسحة المناورة في المتاجرة بالوقود.
المهربون هم من يعيّن الأميار .. والبرلمانيين
وكانت وزارة المحروقات تضخ لولاية تبسة، عبر قطار يومي يتنقل من المنطقة الصناعية بسكيكدة إلى تبسة، ثمانية أضعاف ما تستهلكه مدينة بحجم الجزائر العاصمة، دون أن تفتح هاته المحطات خراطيمها لسيارات المواطنين، الذين كان قدرهم أن يسافروا إلى ولايات بعيدة، لتزويد سياراتهم بالبنزين أو المازوت، وغالبية أثرياء تبسة من مهربي الوقود، وساهموا وصنعوا الحياة الاجتماعية والاقتصادية وحتى السياسية، في ولاية تبسة، وفي دفع المترشحين لمختلف الانتخابات بما فيها البرلمانية، أما عن المجالس البلدية والولائية، فقد بلغ بهم الحد تعيين رؤساء البلديات في المناطق المعنية بالتهريب، أما المهربين الصغار الذين يحلمون بأن يصبحوا كبارا، فتجدهم يمتلكون عشرات السيارات من نوع مازدا.
ومنذ 2010 فقدت ولاية تبسة طابعها الرعوي والفلاحي، ولم يعد أيا كان يهمه تساقط الثلوج أو الأمطار، ولم يعد الولاة الذين يقودون المنطقة يشعرون بأنهم في ولاية مثل بقية الولايات، بعد أن بنت الولاية وسكانها حياتهم على التهريب، وفي الجانب الآخر في الأراضي التونسية، نما شعب مواز، يعيش من النفط الجزائري.
ورغم أن إمبراطورية التهريب بُنيت بسرعة، لكن سيكون من الصعب تهديمها، ففي تبسة أطفال في سن 12 يسوقون السيارات، وأطفال في الـ 15 سنة، وحتى بعض البنات يسوقون الشاحنات، دون أن يثيروا أي أحد، فالأمر عادي بالنسبة إليهم، وهناك عائلات أجبرت أبناءها على تطليق التعليم، رغم نبوغ وتفوق بعضهم، وزجّت بهم في عالم التهريب، في بئر العاتر وفي تبسة، تشاهد قصورا لا يمكن أن ترى لها مثيلا إلا في مايوركا الإسبانية، هي أشبه بالحصون، لا أحد سأل أصحابها من أين لكم هاته القناطير من الذهب والفضة، والعشرات من المهربين اشتروا فيلات في المناطق السياحية الإسبانية، ومنهم من استعان بالجواري ويعيش على طريقة العصر العباسي، بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، قصور بالمسابح والنافورات، وكلاب الحراسة ورجال ونساء في خدمة بارون التهريب، في تبسة المهربون لا يبحثون عن تسمية أخرى، كما هو شائع في الغرب الجزائري لقب "الحلابة"، بل يسمون أنفسهم بالمصدّرين أو المستوردين أو المهربين من دون إحراج، ليدخلوا الآن عالم الاستثمار أو تبييض الأموال، من دون أي حرج أيضا.
ومحاربة التهريب بهذا الحزم في الجزائر، وقوانين السجن الجديدة، ستؤثر على الجانب التونسي المستفيد من هاته الجرائم لأن الآلاف من التونسيين يعيشون منه، ليس بالنسبة للشعب التونسي، وأيضا بالنسبة للدولة التونسية، المجبرة على استيراد الوقود الآن، بعد أن كان غالبية سكان غرب تونس يتزوّدون من البنزين والمازوت المهرّب من الجزائر.
المصدر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق