الكاردينال لخضر حمينة الذي نفى كتابة الروائي رشيد بوجدرة لسيناريو فيلمه "وقائع سنين الجمر"، بل كتب السيناريو بنفسه بمعية توفيق فارس، أنجز فيلمه في وقت وجيز لم يتخطّ الأربعة أشهر، بعد أن طلب منه ذلك الرئيس الراحل هواري بومدين، في ذكرى استقلال الجزائر، وبالفعل وفى حمينة بوعده وقدم العرض الأولّ للفيلم بقاعة "الأطلس" بحضور الزعيم الكمبودي الأسبق نورودوم سيهانوك.
يستعرض حمينة تاريخ الجزائر النضالي ضد فرنسا لنيل الحرية، وتصوير القمع والاضطهاد وغيرها، فضلا عن التطرق لحياة الجزائريين في المداشر والقرى والصحراء، كما أرخّ لفترة تراجيدية خيّمت عليها ملامح البؤس والمجازر اليومية التي ترتكب في حق الجزائريين.
بالنسبة لفيلم رشيد بوشارب "الخارجون عن القانون" فقد خلّف جدلا وأثار موجهة احتجاجات واسعة بين اليمين واليمين المتطرف الفرنسي من جهة، والسلطات الجزائرية التي مثلها آنذاك عبد العزيز بلخادم، حيث رأى الطرف الفرنسي بأنّ الفيلم حرّف التاريخ بإبراز معاناة الشعب الجزائري تحت رحمة الاستعمار، أمّا الجانب الجزائري ندد من خلال بلخادم بالتهجم الفرنسي على الفيلم، واعتبره قد كشف الحقائق وفضح فرنسا الاستعمارية، فضلا عن الجمعيات المناهضة للاحتلال، والتي عبّرت عن رفضها المطلق للرقابة الفنية والمناقضة للديمقراطية التي تقوم عليها الدولة الفرنسية، وبدوره قال بوشارب سابقا: "لقد قمت بإخراج هذا الفيلم حتى يفتح نقاشا ... والفيلم لم ينتج لإثارة المواجهات وإنما للنقاش".
الجدل و"جلباب" التاريخ
عن سينما الثورة وسينما "الجدل" داخل عباءة الثورة "الملائكية" من خلال القراءة التاريخية للفيلمين يقول المخرج والناقد السينمائي نبيل حاجي: "قراءة الفيلمين التاريخية لموضوع الثورة التحريرية مختلفة زمانا ومكانا، فـ"وقائع سنوات الجمر" تنتهي أحداثه عشية اندلاع الثورة، وحاول المخرج حمينة أن يقدم أحداثا قبل الفاتح نوفمبر، ويتخذ من عشية اندلاع الحرب العالمية الثانية منطلقا في سرده الحكائي ليرسم البؤس الذي عاشه الشعب الجزائري تحت سلطة الاستعمار ونشأة الوعي السياسي والنضالي، فيما جاء فيلم "خارجون عن القانون" ليرسم رحلة عذاب لعائلة جزائرية من عام 1925 إلى غاية الاستقلال، ناقلا الموضوع الجزائري إلى التراب الفرنسي، وبوشارب في هذا الفيلم لا يتطرق للثورة بشكل مباشر، بل يرسم كرونولوجيا الأحداث من خلال هذه العائلة ليسقطها على مختلف الأحداث التي أنجبت الثورة والاستقلال"، ويضيف حاجي:"بناء حمينة ينطلق من سيرة ذاتية، ومعايشته لمختلف هذه الأحداث وهو طفل وشاب فيما بعد، فهو يقدم الحكاية من منطلق "الشاهد"، بينما قدّم بوشارب مقاربته لموضوع الصراع الجزائري الفرنسي، لكنه في الجوهر وهو موهوس بهذا الشرخ، ويؤكد حاجي بأنّ الفيلمين يشتركان في تيمة المستعمر الفرنسي في مرحلة تاريخية حاسمة، لكن بناؤهما الدرامي مختلف، حتى وإذا كان حمينة قد تطرق سابقا إلى هذه التيمة في أفلام "ريح الأوراس" و"حسان طيرو" و"ديسمبر"، فإن "خارجون عن القانون" هي امتداد وجداني وتاريخي لفيلمه السابق "بلديون" (2006) الذي يعالج ولأول مرة في تاريخ السينما الفرنسية مشاركة المغاربة في تحرير أوروبا وفرنسا من النازية.
عن الأسلوب السينمائي الذي عولج به الفيلمين أوضح حاجي بأنّ حمينة يحكي سيرته في الأساس، ويتقن لغة الصورة المتناغمة مع موضوع أفلامه التي تنتمي إلى مدرسة "الواقعية الاشتراكية" محولا الوقائع إلى ملحمة إنسانية، كما أنّ أسلوبه الحكائي سينمائي صرف.
بوشارب ينحدر من عائلة مهاجرة وبعد تجربته في "بلديون"، أراد التأريخ بطريقته للهجرة الجزائرية والمغاربية في فرنسا، في إطار ثلاثية "بلديون- خارجون عن القانون- وفيلم ثالث حول الهجرة..."، وهو متأثر بالتجربة الأمريكية من ناحية السرد البصري والدرامي، حيث تحظر الحركة والعمق السياسي للأحداث واعتماده على ممثلين نجوم في المشهد الفرنسي، وإمكانات تقنية عالية في شغله البصري، التي تسعى أيضا لتحويل العمل إلى منتوج ثقافي قابل للتسويق التجاري-يشير نبيل حاجي-.
بدوره مخرج الوثائقيات عبد الباقي صلاي يقول:"هنا يتعلق الحديث بحقبتين مختلفتين تقريبا، من حيث التموضع التاريخي، وإن كانتا تقتربان من حيث كرونولوجيا الأحداث الإجرامية للمستعمر الفرنسي، لكن البطل الذي لم يتغير هو الشعب الجزائري، كما أعطى كلّ مخرج تفسيره للوضع الاجتماعي الجزائري المزري"، وأضاف "الفيلمان انطلاقتهما ثورية قبل أن تتحوّل إلى حربية وإن لم نلمسها إلا من خلال مشاهدهما الأخيرة".
يخصص صلاي بأنّ حمينة حملّ فيلمه ألغازا تنطوي على التراجيديا عبر البحث في البداية عن الماء بكسر حاجز الخوف من استعمال الموروث الثقافي في الوعدة أو الزردة بتقديم القرابين وذبح الذبيحة وإن رآه البعض دروشة وكفر، لينطلق في فضاء فسيح مستعملا اللقطة الكبيرة لإظهار مدى بؤس الجزائر وهي تئن تحت وطء الجفاف ومطرقة الخوف من المستقبل، مؤكدا بأنّ حمينة طوّع الكاميرا لفضح الاستعمار الفرنسي من خلال اللقطات المتنوعة، ومن خلال الحركات المشفرة، وعن بوشارب يوضح المتحدث: ""خارجون" تعني احتواء من هم خارجون عن القانون في قلّة قليلة، فعدم التعريف بالألف واللام لـ مفردة "خارجون" لها دلالة قوية في الفيلم"، واعتبر في السياق بأنّ"خارجون عن القانون" نوع جديد وطرح مغاير لما تم رؤيته في الأفلام الثورية التي تضع الجميع كأبطال، وفيما يتعلق بالتمويل والنظرة إلى التاريخ يعتقد صلاي بأنّ التمويل أصبح جزء من نجاح الفيلم، لكن لم يؤثر في صناعة الفيلمين، بينما النظرة إلى التاريخ فإنّ كل فيلم أعطى قدرا من المصداقية عبر الكاميرا وقاسمهما المشترك الحالة الثورية.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق